الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على البشير النذير، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فمما قرأته واطلعت عليه اليوم من الفوائد ما ذكره ابن رجب الحنبلي رحمه الله في تعليقه على قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء".
فمما أوقفني عنده من كلامه رحمه الله تعليقه على قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «بدأ الإسلام غريبًا»، فقال:" يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب»
فلما بُعِثَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة.
وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته يُؤذى غاية الأذى، ويُنال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل.
وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة. وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعزَّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة وتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأمر على ذلك.
وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشبهات والشهوات.
ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئًا فشيئًا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوقوعه.
فأما فتنة الشبهات: فقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير وجه أن أمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف الروايات في عدد الزيادات على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه رضي الله عنهم.
وأما فتنة الشهوات: ففي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كيف أنتم إذا فُتحت عليكم خزائن فارس والروم، أي قوم أنتم؟» قال عبد الرحمن بن عوف t: نقول كما أمرنا الله، قال: «أوَ غَير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون»
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن عوف عن النبي r قال: «والله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبْسطَ عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم»
فنسأل الله أن يحفظنا جميعاً من فتنة الشبهات والشهوات، وأن يقينا شرور أنفسنا ، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان، إنه بر رحيم، فهو حسبنا ونعم الوكيل.